كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والذي عليه الإجماع هو حرمة صيد البر للمحرم. ولكن هناك خلاف حول تناول المحرم له إذا صاده غير المحرم. كما أن هناك خلافًا حول المعنّى بالصيد. وهل هو خاص بالحيوان الذي يصاد عادة. أم النهي شامل لكل حيوان، ولو لم يكن مما يصاد ومما لا يطلق عليه لفظ الصيد.
ويختم هذا التحليل وهذا التحريم باستجاشة مشاعر التقوى في الضمير؛ والتذكير بالحشر إلى الله والحساب:
{واتقوا الله الذي إليه تحشرون}.. وبعد. ففيم هذه الحرمات؟
إنها منطقة الأمان يقيمها الله للبشر في زحمة الصراع.. إنها الكعبة الحرام، والأشهر الحرام، تقدم في وسط المعركة المستعرة بين المتخاصمين والمتحاربين والمتصارعين والمتزاحمين على الحياة بين الأحياء من جميع الأنواع والأجناس.. بين الرغائب والمطامع والشهوات والضرورات.. فتحل الطمأنينة محل الخوف، ويحل السلام محل الخصام، وترف أجنحة من الحب والإخاء والأمن والسلام. وتدرب النفس البشرية في واقعها العملي- لا في عالم المثل والنظريات- على هذه المشاعر وهذه المعاني؛ فلا تبقى مجرد كلمات مجنحة ورؤى حالمة، تعز على التحقيق في واقع الحياة: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد. ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في والأرض وأن الله بكل شيء عليم. اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون}.
لقد جعل الله هذه الحرمات تشمل الإنسان والطير والحيوان والحشرات بالأمن في البيت الحرام. وفي فترة الإحرام بالنسبة للمحرم حتى وهو لم يبلغ الحرم. كما جعل الأشهر الحرم الأربعة التي لا يجوز فيها القتل ولا القتال وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثم رجب.. ولقد ألقى الله في قلوب العرب- حتى في جاهليتهم- حرمة هذه الأشهر. فكانوا لا يروعون فيها نفسًا، ولا يطلبون فيها دمًا، ولا يتوقعون فيها ثأرًا، حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه، فكانت مجالًا آمنًا للسياحة والضرب في الأرض وابتغاء الرزق.. جعلها الله كذلك لأنه أراد للكعبة- بيت الله الحرام- أن تكون مثابة أمن وسلام. تقيم الناس وتقيهم الخوف والفزع. كذلك جعل الأشهر الحرم لتكون منظقة أمن في الزمان كالكعبة منطقة أمن في المكان. ثم مد رواق الأمن خارج منطقة الزمان والمكان، فجعله حقًا للهدي- وهو النعم- الذي يطلق ليبلغ الكعبة في الحج والعمرة؛ فلا يمسه أحد في الطريق بسوء. كما جعله لمن يتقلد من شجر الحرم، معلنًا احتماءه بالبيت العتيق.
لقد جعل الله هذه الحرمات منذ بناء هذا البيت على أيدي إبراهيم وإسماعيل؛ وجعله مثابة للناس وأمنًا، حتى لقد امتن الله به على المشركين أنفسهم؛ إذ كان بيت الله بينهم مثابة لهم وأمنًا، والناس من حولهم يُتخطفون، وهم فيه وبه آمنون، ثم هم- بعد ذلك- لا يشكرون الله؛ ولا يفردونه بالعبادة في بيت التوحيد؛ ويقولون للرسول صلى الله عليه وسلم إذ يدعوهم إلى التوحيد: إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا. فحكى الله قولهم هذا وجبههم بحقيقة الأمن والمخافة: {وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا. أو لم نمكن لهم حرمًا آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقًا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون} وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: إن هذا البلد حرام، لا يعضد شجرة، ولا يُختلى خَلاه، ولا ينفر صيده، ولا تلتقط لقطته إلا لمعرّف».
ولم يستثن من الأحياء مما يجوز قتله في الحرم وللمحرم إلا الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور لحديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور».
وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما زيادة الحية.
كذلك حرمت المدينة لحديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور». وفي الصحيحين من حديث عباد بن تميم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة».
وبعد، فإنها ليست منطقة الأمان في الزمان والمكان وحدهما. وليس رواق الأمن الذي يشمل الحيوان والإنسان وحدهما.. إنما هي كذلك منطقة الأمان في الضمير البشري.. ذلك المصطرع المترامي الأطراف في أغوار النفس البشرية.. هذا المصطرع الذي يثور ويفور فيطغى بشواظه وبدخانه على المكان والزمان، وعلى الإنسان والحيوان!.. إنها منطقة السلام والسماحة في ذلك المصطرع، حتى ليتحرج المحرم أن يمد يده إلى الطير والحيوان. وهما- في غير هذه المنطقة- حل للإنسان. ولكنهما هنا في المثابة الآمنة. في الفترة الآمنة. في النفس الآمنة.. إنها منطقة المرانة والتدريب للنفس البشرية لتصفو وترق وترف فتتصل بالملأ الأعلى؛ وتتهيأ للتعامل مع الملأ الأعلى..
ألا ما أحوج البشرية المفزَّعة الوجلة، المتطاحنة المتصارعة.. إلى منطقة الأمان، التي جعلها الله للناس في هذا الدين، وبينها للناس في هذا القرآن!
{ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم}.
تعقيب عجيب في هذا الموضع؛ ولكنه مفهوم! إن الله يشرع هذه الشريعة، ويقيم هذه المثابة، ليعلم الناس أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم.. ليعلموا أنه يعلم طبائع البشر وحاجاتهم ومكنونات نفوسهم وهتاف أرواحهم. وأنه يقرر شرائعه لتلبية الطبائع والحاجات، والاستجابة للأشواق والمكنونات.. فإذا أحست قلوب الناس رحمة الله في شريعته؛ وتذوقت جمال هذا التطابق بينها وبين فطرتهم العميقة علموا أن الله يعلم ما في السماوات والأرض وأن الله بكل شيء عليم.
إن هذا الدين عجيب في توافيه الكامل مع ضرورات الفطرة البشرية وأشواقها جميعًا؛ وفي تلبيته لحاجات الحياة البشرية جميعًا.. إن تصميمه يطابق تصميمها؛ وتكوينه يطابق تكوينها. وحين ينشرح صدر لهذا الدين فإنه يجد فيه من الجمال والتجاوب والأنس والراحة ما لا يعرفه إلا من ذاق!
وينتهي الحديث عن الحلال والحرام في الحل والإحرام بالتحذير صراحة من العقاب مع الإطماع في المغفرة والرحمة: {اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم}.
ومع التحذير إيحاء وإلقاء للتبعة على المخالف الذي لا يثوب: {ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون}.
ثم تختم الفقرة بميزان يقيمه الله للقيم، ليزن به المسلم ويحكم. ميزان يرجح فيه الطيب ويشيل الخبيث. كي لا يخدع الخبيث المسلم بكثرته في أي وقت وفي أي حال!
{قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون}.
إن المناسبة الحاضرة لذكر الخبيث والطيب في هذا السياق، هي مناسبة تفصيل الحرام والحلال في الصيد والطعام. والحرام خبيث، والحلال طيب.. ولا يستوي الخبيث والطيب ولو كانت كثرة الخبيث تغر وتعجب. ففي الطيب متاع بلا معقبات من ندم أو تلف، وبلا عقابيل من ألم أو مرض.. وما في الخبيث من لذة إلا وفي الطيب مثلها على اعتدال وأمن من العاقبة في الدنيا والآخرة.. والعقل حين يتخلص من الهوى بمخالطة التقوى له ورقابة القلب له، يختار الطيب على الخبيث؛ فينتهي الأمر إلى الفلاح في الدنيا والآخرة: {فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون}.
هذه هي المناسبة الحاضرة.. ولكن النص- بعد ذلك- أفسح مدى وأبعد أفقًا. وهو يشمل الحياة جمعيًا، ويصدق في مواضع شتى:
لقد كان الله الذي أخرج هذه الأمة، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، يعدها لأمر عظيم هائل.. كان يعدها لحمل أمانة منهجه في الأرض، لتستقيم عليه كما لم تستقم أمة قط، ولتقيمه في حياة الناس كما لم يقم كذلك قط. ولم يكن بد أن تراض هذه الأمة رياضة طويلة. رياضة تخلعها أولًا من جاهليتها؛ وترفعها من سفح الجاهلية الهابطة وتمضي بها صعدًا في المرتقى الصاعد إلى قمة الإسلام الشامخة ثم تعكف بعد ذلك على تنقية تصوراتها وعاداتها ومشاعرها من رواسب الجاهلية؛ وتربية إرادتها على حمل الحق وتبعاته. ثم تنتهي بها إلى تقييم الحياة جملة وتفصيلًا وفق قيم الإسلام في ميزان الله.. حتى تكون ربانية حقًا.. وحتى ترتفع بشريتها إلى أحسن تقويم.. وعندئذ لا يستوي في ميزانها الخبيث والطيب؛ ولو أعجبها كثرة الخبيث! والكثرة تأخذ العين وتهول الحس. ولكن تمييز الخبيث من الطيب، وارتفاع النفس حتى تزنه بميزان الله، يجعل كفة الخبيث تشيل مع كثرته، وكفة الطيب ترجح على قلته.. وعندئذ تصبح هذه الأمة أمينة ومؤتمنة على القوامة.. القوامة على البشرية.. تزن لها بميزان الله؛ وتقدر لها بقدر الله؛ وتختار لها الطيب، ولا تأخذ عينها ولا نفسها كثرة الخبيث!
وموقف آخر ينفع فيه هذا الميزان.. ذلك حين ينتفش الباطل؛ فتراه النفوس رابيًا؛ وتؤخذ الأعين بمظهره وكثرته وقوته.. ثم ينظر المؤمن الذي يزن بميزان الله إلى هذا الباطل المنتفش، فلا تضطرب يده، ولا يزوغ بصره، ولا يختل ميزانه؛ ويختار عليه الحق الذي لا رغوة له ولا زبد؛ ولا عدة حوله ولا عدد.
إنما هو الحق.. الحق المجرد إلا من صفته وذاته؛ وإلا من ثقله في ميزان الله وثباته؛ وإلا من جماله الذاتي وسلطانه!
لقد ربى الله هذه الأمة بمنهج القرآن، وقوامة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى علم سبحانه أنها وصلت إلى المستوى الذي تؤتمن فيه على دين الله.. لا في نفوسها وضمائرها فحسب، ولكن في حياتها ومعاشها في هذه الأرض، بكل ما يضطرب في الحياة من رغبات ومطامع، وأهواء ومشارب، وتصادم بين المصالح، وغلاب بين الأفراد والجماعات. ثم بعد ذلك في قوامتها على البشرية بكل ما لها من تبعات جسام في خضم الحياة العام.
لقد رباها بشتى التوجيهات، وشتى المؤثرات، وشتى الابتلاءات، وشتى التشريعات؛ وجعلها كلها حزمة واحدة تؤدي دورًا في النهاية واحدًا، هو إعداد هذه الأمة بعقيدتها وتصوراتها، وبمشاعرها واستجاباتها، وبسلوكها وأخلاقها، وبشريعتها ونظامها، لأن تقوم على دين الله في الأرض، ولأن تتولى القوامة على البشر.. وحقق الله ما يريده بهذه الأمة.. والله غالب على أمره.. وقامت في واقع الحياة الأرضية تلك الصورة الوضيئة من دين الله.. حلمًا يتمثل في واقع.. وتملك البشرية أن تترسمه في كل وقت حين تجاهد لبلوغه فيعينها الله..
بعد ذلك يتجه السياق إلى شيء من تربية الجماعة المسلمة وتوجيهها إلى الأدب الواجب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم سؤاله عما لم يخبرها به؛ مما لو ظهر لساء السائل وأحرجه أو ترتب عليه تكاليف لا يطيقها، أو ضيق عليه في أشياء وسع الله فيها، أو تركها بلا تحديد رحمة بعباده.
{يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم. وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم. عفا الله عنها والله غفور حليم. قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين}.
كان بعضهم يكثر على رسول الله صلى الله عليه وسلم من السؤال عن أشياء لم يتنزل فيها أمر أو نهي. أو يلحف في طلب تفصيل أمور أجملها القرآن، وجعل الله في إجمالها سعة للناس. أو في الاستفسار عن أمور لا ضرورة لكشفها فإن كشفها قد يؤذي السائل عنها أو يؤذي غيره من المسلمين.
وروي أنه لما نزلت آية الحج سأل سائل: أفي كل عام؟ فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا السؤال لأن النص على الحج جاء مجملًا: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا} والحج مرة يجزي. فأما السؤال عنه أفي كل عام فهو تفسير له بالصعب الذي لم يفرضه الله.
وفي حديث مرسل رواه الترمذي والدارقطني عن علي رضي الله عنه قال: «لما نزلت هذه الآية: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا} قالوا: يا رسول الله أفي كل عام؟ فسكت. فقالوا: أفي كل عام؟ قال: لا. ولو قلت نعم لوجبت».